الرئيسية / خطيب / ما هو الأنثروبولوجيا أو علم الإنسان؟ وما أهميته ؟

ما هو الأنثروبولوجيا أو علم الإنسان؟ وما أهميته ؟

الأنثروبولوجيا (علم الأناسة) بأنه العلم الذي «يدرس البشر في جميع أنحاء العالم، وتاريخهم التطوري، وسلوكهم، وكيفية تكيفهم مع البيئات المختلفة وتواصلهم واختلاطهم معا». في الواقع، هذا تعريف محير، فمن الصعب استخلاص تصور واضح لماهية الأنثروبولوجيا اعتمادا على موضوعها وحده، الذي هو الإنسان، إذ تتخذ العديد من العلوم بالفعل من هذا الكائن موضوعا لها، كما أن الجوانب المذكورة تنتمي إلى علوم شديدة التنوع والاختلاف، منها الدراسات العرقية والتاريخ والأحياء وعلم النفس واللغة والاجتماع !

لكن الأنثروبولوجيا بالفعل أكثر العلوم التي تدرس الإنسان شمولية، تتقاطع مع كثير من العلوم الأخرى، منها الأحياء والتاريخ والاجتماع والأدب والفلسفة، لها اليوم فروع وتخصصات عدة، شديدة الثراء، فيها ما يتطلب بحوثا ميدانية، ومنها ما يتطلب جهودا تحليلية، ومنها ما يتطلب أبحاثا معملية.

الأنثروبولوجيا المبكرة

عندما نتحدث عن الأنثروبولوجيا المبكرة، فنحن نتحدث –في الحقيقة- عن الأنثروبولوجيين الأوائل. إن الانتباه إلى نسبية الثقافة والقيم، والنظرة المقارنة، مع حد أدنى من الحيادية، هي أهم لوازم الاشتغال بهذا العلم. إلا أن هذه روح ظل اكتسابها خلال الشطر الأعظم من عمر الإنسانية أمرا شديد الندرة، لأسباب متنوعة.

نحو التأسيس

في عام 1859، أي في النصف الثاني من قرن بدأ بالثورة الفرنسية وشهد الثورة الصناعية، وفي نفس الفترة التي دعا فيها عالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت إلى إنشاء علم وضعي لدراسة المجتمع، نشر عالم الطبيعة والأحياء البريطاني تشارلز داروين كتاب «أصل الأنواع»، وطرح فيه نظرية التطور، لتبدأ بكل ذلك مرحلة جديدة من الفكر الغربي.

في مقابل إسهام دارون في علم الأحياء،طبّق الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر هذه النظرية على المجتمعات البشرية، فشبهها بكائنات بيولوجية، تحاول هي الأخرى التكيف للحفاظ على وجودها، ينجح بعضها ويهلك الآخر. أثرت هذه النظرية في العديد من الأنثروبولوجيين، فصوروا في كتاباتهم الأوروبيين شعبا متفوقا بيولوجيا وثقافيا على سائر الشعوب، وهو ما يتماشى مع ما شهده الغرب في هذه الفترة من رواج لدراسة السلالات البشرية بهدف إثبات التفوق العنصري.

في هذه الفترة، سيقدم الكثيرون، مثل مؤسس الأنثروبولوجيا البريطانية السير إدوارد تايلور، والأنثروبولوجي الأمريكي لويس هنري مورغان، إسهامات شديدة الأهمية، حول تطور المجتمعات، وفق نظرية التطور الاجتماعي، التي ستستمر هيمنتها على الأوساط الأنثروبولوجية فترة من الزمن.

ستحسن دول أوروبا الاستعمارية توظيف هذه الكتابات لتبرير توسعاتها، باعتبارها منقذة لهذه الشعوب «المتخلفة». في الوقت نفسه، سيفشل دعاة التفوق البيولوجي للرجل الأبيض في تقديم أدلة على مزاعمهم، رغم توفر كثير من «العينات» التي سيجلبها المستكشفون من أفريقيا. ومع تراجع هذه النظرة، سيبدأ الاختلاف الأكاديمي في النمو، لتكتسب كل مدرسة أنثروبولوجية مزيدا من الخصوصية.

الأنثروبولوجيا حول العالم

أولا، يجب الإشارة إلى أن اختلاف المدارس الأنثروبولوجية حول التخصصات والفروع ومجالات ومناهج البحث، هو أمر متفهم في ضوء اختلاف التاريخ والثقافة والتيار الفلسفي المهيمن، بل اختلاف النظرة إلى هذا العلم ووظيفته والغرض منه أيضا، لذا لم يقتصر الاختلاف على دول العالم الأول، فتكرر عند اشتغال دول ما بعد الكولونيالية بالبحث الأنثروبولوجي، مثلما جرى في أفريقيا

كما أن للحركة النسوية مقاربتها الخاصة، وهي مقاربة مهمة ومؤثرة، سعت فيها إلى تحرير المجال وتنقيته من الهيمنة والتحيز الذكوري. ومن الأمثلة على الخصوصية القومية جريان العرف في بعض بلاد أوروبا –أبرزها فرنسا- على إسناد مهمة دراسة الإنسان ما دام «آخر»، سواء زمانيا أو مكانيا، إلى علم الأنثروبولوجيا، بينما يتكفل علم الاجتماع بدراسة المجتمعات الغربية الحديثة. وبالفعل، يلاحظ أن الشعوب المحتلة قد نالت النصيب الأكبر من اهتمام الأنثروبولوجيين، بينما نال الغرب جل اهتمام علماء الاجتماع، وإن كان الأمر قد تغير.

الإنجليزية لغة الجزء الأكبر من أدبيات الأنثروبولوجيا، ومرجع ذلك إلى سبق إنجلترا وأمريكا النسبي إلى تأسيس هذا العلم وتطويره، إضافة إلى كونها اللغة الرسمية للعولمة. إلا أن هناك اختلافات بين هذين البلدين أيضا. مثل الاختلاف التاريخي حول تفاسير الأنماط الاجتماعية، فبينما رأى الأمريكيون أن التفسير يعبر عن بنية عقلية مشتركة لا يجوز تعميمها، رأى الإنجليز أنه قانون يشبه قوانين العلوم الطبيعية.

كما أن علم الآثار في إنجلترا تخصص أكاديمي مستقل عن الأنثروبولوجيا تماما، على عكس الوضع في أمريكا (كما سنرى). لهذه الأسباب وغيرها، رغم الأهمية والمكانة الكبيرة للأنثروبولوجيا الأوروبية، خاصة الإنجليزية والفرنسية، سنعرض هنا للتخصصات الأنثروبولوجية وفق المقاربة الأمريكية، التي تجعلها تخصصات أربعة: الأنثروبولوجيا الفيزيائية (البيولوجية)، والأنثروبولوجيا الثقافية (الاجتماعية)، والأنثروبولوجيا اللغوية، وعلم الآثار

تخصصات الأنثروبولوجيا الأمريكية

1. الأنثروبولوجيا الفيزيائية

تدرس تطور الإنسان على مر الزمن، والآثار البيئية والثقافة المختلفة على التطور الإنساني. وتعالج ثلاث مجموعات رئيسية من المشكلات: تطور الرئيسيات الإنسانية وغير الإنسانية، والتنوع الإنساني وأهميته، والأسس البيولوجية للسلوك الإنساني. من أجل ذلك يدرس الأنثروبولوجيون الفيزيائيون حفريات المجموعات السابقة من أشباه الإنسان .. والرئيسيات غير الإنسانية.

2. الأنثروبولوجيا الثقافية

هذه أكبر التخصصات الأربعة، فالثقافة في الأنثروبولوجيا الأمريكية أشمل بكثير من المجتمع (يحمل التخصص في بريطانيا اسم الأنثروبولوجيا الاجتماعية)، إذ تشمل كل ما هو مكتسب في حياة الإنسان. ومن بين ذلك الدين، والأسطورة، والتقاليد، والعادات، والفنون، والأدوات، والهياكل الاجتماعية، والأسرة. ولقد كان للوجود المسبق لمجتمعات السكان الأصليين في أمريكا دور عظيم في إثراء وتطوير هذا التخصص بصورة ملحوظة.

3. الأنثروبولوجيا اللغوية

تدرس اللغات في سياقها الاجتماعي والثقافي عبر الزمان والمكان، سواء اللفظية وغير اللفظية، ويشمل ذلك دراسة وظائفها واستخداماتها الاجتماعية، والعلاقة بين اللغة والعقل والثقافة والمجتمع، وتأثير اللغات على تصورنا للعالم، وانتقالها بين الأجيال. ولقد استطاع الأنثروبولوجيون اللغويون تطوير مجموعة من الأدوات النظرية والمنهجية واسعة النطاق، تتناسب مع شمولية نطاق البحث. فإلى جانب دراسة مختلف النظريات الموضوعة لوصف وفهم اللغة، يهتم التخصص كذلك باللغة من جميع جوانبها، وليس استخداماتها الاجتماعية فقط، فيدرس تاريخها وبنيتها وصوتياتها وشاعريتها.

4. علم الآثار

يهدف إلى الكشف عن ثقافة وتفاصيل حياة المجتمعات التاريخية وقبل التاريخية، بالتنقيب، والتأريخ، وتحليل ما تركته الأجيال السابقة. يعكف علماء الآثار على آلاف قطع الأواني الفخارية وغيرها من التحف للتوصل إلى تصور علمي لطبيعة الحياة الإنسانية قديما.

ويختلف علم الآثار عن علم التاريخ من حيث المادة الخام، فيتعامل علماء الآثار مع المادة الملموسة، في حين يتعامل المؤرخون مع المادة المقروءة مما يقيض مدى اشتغاله بالعصور التاريخية. في الوقت نفسه، قد يستعين عالم اللآثار بمواد كثير من التخصصات الإنسانية والاجتماعية الأخرى، لاستكمال تصوره عن الماضي، فيتقاطع عمله مع علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية والأدب والتاريخ أيضا.